أول من حج البيت الحرام

عنوان المقال: أول من حج البيت الحرام

الحج من أركان الإسلام العظيمة، وهو شعيرة دينية لها جذور ضاربة في عمق التاريخ البشري والنبوي. وقد ارتبط الحج ارتباطاً وثيقاً ببيت الله الحرام، الكعبة المشرفة، التي تعد قبلة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. ويمثل هذا الركن العظيم عبادة تجمع بين الجسد والروح، وبين التوبة والتجرد لله. غير أن سؤالًا جوهريًا تطرحه كتب السيرة والتاريخ والفقه الإسلامي منذ قرون، وهو: من هو أول من حج البيت الحرام؟ تتقاطع في الإجابة عن هذا السؤال أبعاد عقدية وتاريخية ونبوية، ما يستوجب تناولًا موسعًا يأخذ بعين الاعتبار مختلف الروايات والمصادر الإسلامية الموثوقة.

مكانة الكعبة قبل الإسلام

للكعبة المشرفة مكانة عظيمة في التاريخ الديني، فقد ورد في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية أنها أول بيت وضع للناس، قال تعالى:

“إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ” (آل عمران: 96).

وهذا ما يجعلها أقدم بناء تعبدي في تاريخ البشرية، وقد ارتبط بها الحج منذ العصور الأولى، غير أن تحديد أول من قام بأداء شعائر الحج إليها يستلزم تتبع تاريخ بناء الكعبة ونشأتها وارتباطها بالأنبياء.

بناء الكعبة: هل بناها آدم أم إبراهيم؟

اختلف أهل العلم والتفسير في أول من بنى الكعبة، فهناك روايتان رئيسيتان:

1. الرواية الأولى: بناء آدم عليه السلام للكعبة
   وفقًا لبعض روايات السلف والمفسرين مثل ابن عباس رضي الله عنه، فإن الكعبة بنيت أول مرة على يد آدم عليه السلام، وقد حج إليها، ثم اندثر البناء مع الطوفان في زمن نوح عليه السلام.

2. الرواية الثانية: بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة
   وهذه هي الرواية الأشهر والأثبت في القرآن الكريم، حيث ورد في سورة البقرة:
   
   “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ…” (البقرة: 127).
   
   مما يدل على أن إبراهيم عليه السلام هو من أعاد بناء الكعبة على قواعدها السابقة، وليس أول من بناها من الصفر. وهذا البناء ارتبط بشعيرة الحج التي شرعها الله تعالى لإبراهيم وذريته من بعده، كما قال سبحانه:
   
   “وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا…” (الحج: 27).

من هو أول من حج البيت الحرام؟

استنادًا إلى النصوص والآثار، نستطيع تقسيم الإجابة إلى ثلاثة محاور متداخلة:

1. أول من حج البيت الحرام من البشر على الإطلاق: آدم عليه السلام

تشير كتب السير والتفسير إلى أن آدم عليه السلام، بعد أن أهبط إلى الأرض، قد توجه إلى موضع الكعبة المشرفة، وبنى هناك بيتاً يعبد الله فيه. ويقال أنه كان أول من طاف بالبيت وحج إليه، وأن الله تعالى بعث له الملائكة لتعينه في أداء المناسك.

ورد عن مجاهد وغيره من التابعين، أن آدم عليه السلام قد حج إلى الكعبة التي رفعها الله له من السماء، ثم أدى المناسك على النحو الذي ألهمه الله تعالى به، وكان ذلك أول تعبير عن “الحج” في التاريخ البشري.

2. أول من أعاد بناء الكعبة وشرع الحج بصورة منهجية: إبراهيم عليه السلام

لا خلاف أن إبراهيم عليه السلام هو الذي أمره الله بإعادة بناء الكعبة بعد اندثارها، ومعه ابنه إسماعيل عليه السلام. وبعد بناء الكعبة، أمره الله أن يُؤذِّن في الناس بالحج، فجعل الحج عبادة مفروضة ومعلنة، يؤداها الناس رجالًا وركبانًا. وهذا التأذين الإبراهيمي بالحج هو النقطة المفصلية التي بدأ عندها الحج بوصفه شعيرة متكررة منظمة على مدى الأجيال، وقد استجابت له قلوب الناس منذ ذلك الحين.

ويعد إبراهيم عليه السلام بذلك أول من حج الكعبة بعد إعادة بنائها وتكليف الناس بأداء هذا النسك.

3. أول من حج من العرب بعد انقطاع الفترة النبوية: قبيلة جُرهم

بعد زمن إسماعيل عليه السلام، استوطنت قبيلة جرهم منطقة مكة، وكانوا من أوائل العرب الذين حافظوا على شعائر الحج، حيث تعلموها من إسماعيل وأبيه إبراهيم. وكانوا يقومون بالطواف والسعي ويوقرون البيت، إلا أن كثيراً من الشعائر تحرفت مع مرور الزمن، إلى أن جاء الإسلام ليعيد الحج إلى نهجه الإبراهيمي الصحيح.

ملامح الحج قبل الإسلام وبعده

كان العرب في الجاهلية يمارسون الحج، إلا أنهم أدخلوا عليه كثيرًا من التحريفات، مثل:

• الطواف عراة حول الكعبة

• تخصيص أيام لا تستند إلى شريعة

• استحداث أصنام داخل وحول الكعبة

وعند بعثة النبي محمد ﷺ، أعاد الحج إلى سنته الصحيحة كما أداها إبراهيم عليه السلام، وفرضه الله على المسلمين في السنة التاسعة للهجرة، فنُقي من شوائب الجاهلية، وأصبح أحد أركان الإسلام الخمسة.

الجدول التالي يوضح مقارنة بين أهم المراحل في تاريخ الحج:

الخلاصة التاريخية والعقدية

يمكن القول إن الحج إلى الكعبة المشرفة بدأ مع آدم عليه السلام، ولكن أعظم نقطة تحول في تاريخه كانت مع النبي إبراهيم عليه السلام، الذي أعاد بناء البيت بأمر من الله، وأذن في الناس بالحج، مما جعله المؤسس الفعلي لشعيرة الحج كما نعرفها اليوم. واستمرت هذه الشعيرة حتى جاء النبي محمد ﷺ، ليعيدها إلى أصلها ويكمل رسالة التوحيد ويقيم أركان الإسلام.

وبهذا يتجلى البعد العميق لشعيرة الحج، بوصفها عبادة ربانية متجذرة في الأصل الإنساني، وممتدة من زمن آدم إلى ختام الرسالات مع النبي محمد ﷺ، تؤكد وحدة العقيدة ودوام التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد.

المراجع

1. تفسير ابن كثير – إسماعيل بن عمر بن كثير.

2. البداية والنهاية – الإمام ابن كثير.